Translate

الأربعاء، 3 ديسمبر 2014





البرنامج التفصيلي لمادة الحكم الراشد العالمي موجه لطلبة الماستر

تخصص أنظمة سياسية مقارنة والحكم الراشد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                                                                                                                                                                                                               

المحور الأول: التطور التاريخي لمفهوم الحكم الراشد العالمي
من خلاله سيتم توظيف المنهج التاريخي لتتبع نشأة المفهوم، إذ يتم ذلك انطلاقا من الإمبراطوريات الإقطاعية القديمة من القرن 12 واستخدامات المصطلح في الربع الأخير من القرن 20، وبعدها نحاول تتبع المفهوم إلى أن اقترن بأدبيات السياسة العالمية في وقتنا الراهن على حد قول جيمس روزنو وجون كويمون وجيمس مارش وجون ألسون
المحور الثاني: صور ومعايير الحكم الراشد في دولة الرسول (صلى الله عليه وسلم)
وذلك من خلال التعرض لمفهوم الحكم الراشد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف أن أسمى معاني الحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان هيا المسيطرة في عهده عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
المحور الثالث: الإشكالات الإبستمولوجية لمفهوم الحكم الراشد العالمي
سنعمل على محاورة ومساءلة المعنى الاصطلاحي والمفهوماتي للحكم الراشد العالمي من خلال ثلاث إشكالات رئيسية : أولا: إشكال على مستوى الترجمة اللغوية – ثانيا: إشكال على مستوى التعريف وما أفرزه من جدل حول طبيعة ومحتوى المفهوم -  إشكال على مستوى النموذج والبحث عن إطار قيمي موحد يجمع بين مختلف المنظومات الفكرية والحضارية ويسمح بتعميمها على مستوى عالمي.
المحور الرابع: معايير الحكم الراشد العالمي: مقاربة تفكيكية تركيبية
في هذا المحور يتم التركيز على معيار الجودة السياسية وثلاثية الفعالية + المشروعية + التداول، كما يتم التركيز على الحكم الراشد كقيمة معيارية من خلال التعرض لبعض المعايير التي قدمت في هذا الصدد على شاكلة طرح كوفمان ومنظمة التعاون الاقتصادي ومعايير البنك الدولي وغيرها من المعايير.
المحور الخامس: الحكم الراشد العالمي والمفاهيم ذات الصلة
في هذا السياق يتم التركيز على بعض المفاهيم الشائعة والقريبة من مفهوم الحكم الراشد العالمي على غرار  الحكم الراشد، العولمة، حقوق الإنسان... الخ
المحور السادس: التدخل الدولي الإنساني وإشكالية السيادة
في هذا المحور ستتم محاورة واقعنا الراهن من خلال التطرق إلى التدخلات الحاصلة اليوم من أجل حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية من أجل حكم راشد، وذلك على ضوء نظرية السيادة بين الواقعيين والنقديين، إذ ستتم المحاورة النظرية في سياق الحديث على التجارب العربية الراهنة
المحور السابع: المجتمع المدني ودوره في إرساء نظام حكم راشد عالمي
وتم إفراد المجتمع المدني بمنظماته المختلفة في محور مستقل لما له من دور فعال في ترجمة مفهوم الحكم الراشد إلى الواقع المعاش من خلال محاربة الفساد ونشر مبادئ العدل والمساواة
المحور الثامن: نظريات ومدارس الحكم الراشد العالمي
هذا المحور ستتم معالجته في حصتين أو أكثر نظرا لتشعباته المختلفة فالنظرية باعتبارها تمثل الإطار الأمثل للتحليل فإنه لا غنى عنها في حقل العلوم السياسية، ومن هنا نحاول محاورة بعض النظريات المدارس التي تناولت موضوع الحكم الراشد العالمي على غرار المدرسة الليبرالية والنظرية الماركسية، والواقعية، الوظيفية والوظيفية الجديدة ، إلى جانب ذلك سيتم التطرق إلى طرحات المتعولمون الذين يعتقدون أن من يحكم هو رأس المال العالمي والشركات العالمية، والتدويليون الذين يعتقدون أن من يحكم هو المهيمن وهو القادر على فرض نموذج للحكم الراشد على تلك الدول التي تفتقر إلى إليه، وطرحات التحويليون الذين يعتقدون أن الحكم تكنوقراطي ومن تحكم هيا المجتمعات المعرفية ومختلف القوى الاجتماعية.
المحور التاسع: مؤسسات الحكم الراشد العالمي: دراسة تحليلية
من خلال هذا المحور سيتم التطرق إلى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وذلك من خلال بعض النماذج في سياق تحليلي.
المحور العاشر: نماذج مختارة
سيتم التطرق لبعض النماذج مثل الجزائر، ماليزيا، تركيا، الصين

الأربعاء، 26 نوفمبر 2014



عقيدة الأمن القومي الجزائري من منظور جيواستراتيجي: قراءة في عملية تيقنتورين

 
طالما شكلت الجغرافيا السياسية موضوعاً ذو أهمية في تحديد عقيدة الأمن القومي للدول، وبدورها الجزائر وفي ظل المكانة الجيواستراتيجية التي تحتلها والتي جعلت منها لاعباً محورياً في نطاقها الإقليمي أضحت مطالبة أكثر من غيرها بتقديم تصور لمعالجة تداعيات كل التحولات التي تعرفها المنطقة، وما يدفع نحو هذا الاتجاه كونها –أي الجزائر- تمتلك من مقومات القوة ما يؤهلها لقيادة الأمن الإقليمي من جهة إلى جانب أنها أكبر المتضررين من إفرازات التحولات السياسية في دول الجوار بإعتبار أنها تشترك في حدود تجاوزت 7000 كلم مع جيرانها وهو ما يثقل كاهل الدولة في مراقبة هذه المساحة، ولعل ما يضفي طابع التعقيد على إفرازات هذا التحول السياسي الكبير في دول الجوار على الجزائر، هو الدور المحوري الذي أضحت تلعبه بعض الجماعات الإرهابية والتوظيف الإثني في اللعبة الأمنية في ظل انتشار  كبير للسلاح، لذلك صاحب استخدام العنف فترة الفراغ السياسي في بعض دول الجوار على غرار ليبيا ومالي مثلا، هذا المشهد "العنفي" الذي يدفع نحو ضرورة تبني مقاربة شاملة حتى لا تتسع دائرة التهديد المباشر للأمن القومي الجزائري، ومن منطلق القيمة الإستراتيجية التي تحتلها الجزائر في الخارطة الجيواستراتيجية نحاول التعرف على مضمون عقيدتها الأمنية لمعرفة أبعاد سياستها الأمنية في ظل هذه التحولات الإقليمية.
أولا: العقيدة الأمنية من منظور منهج التكوين المفاهيمي
تكتسي العقيدة الأمنية أهميتها من اعتبارها دليلا يوجه ويقرر به القادة السياسة الأمنية للدولة ببعدها الداخلي والخارجي، فالعقيدة الأمنية في جوهرها مبادئ وأطر أخلاقية أو حتى دستورية تحدد وتوجه القادة السياسيين في سياستهم الخارجية، فهي التعريف الجيوسياسي لمصالح دولتية.
قبل التطرق لتعريف العقيدة الأمنية ينبغي أولاً تحديد المقصود بكلمة "عقيدة"، فأصل الكلمة "العقيدة" (Doctrine) لاتيني وهو (Doctrina)، وتعني تعاليم النظرية العلمية والفلسفية(1)، وعند استخدامها في الجانب العسكري فإنها تعني مجموعة التعاليم النظرية والعلمية والفلسفية المتعلقة بفن الحرب والجوانب المرتبطة بها(2)، وللإشارة هناك فريق من الباحثين استخدم بدلاً من "العقيدة العسكرية" مصطلح "المذهب العسكري" أو "المذهب القتالي" كمرادف لها، فهي ــ أي العقيدة ــ مجموعة الأفكار والمعتقدات والمبادئ التي يتبناها الأفراد والتي من خلالها يتم تفسير الوقائع ذات الطبيعة السياسية والإقتصادية والإجتماعية(3)، والعقيدة كنظام فكري قد يرتبط بمفكر بمثل (عقيدة ماركس) وقد ترتبط بحركة فكرية (العقيدة الليبرالية على سبيل المثال).
أمَّا "العقيدة الأمنية" فتعرف على أنها مجموعة القواعد والمبادئ والنظم العقائدية المنظمة والمترابطة التي توجه سلوك الدولة الأمني (تعاوني/غير تعاوني) وقراراتها على المستوى المحلي والدولي(4)، وهي تحدد نظرة وقراءة قادتها لبيئتهم الأمنية وكيفية استخدام القوة القومية بكافة أشكالها (اقتصادية، سياسية، عسكرية) وكيفية توظيف هذه القوة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للدولة، فالعقيدة الأمنية تسهم في التعريف بالاهتمامات الأمنية الخاصة أمام المجتمع الدولي كما أنها تساعد القادة السياسيين بالتعامل مع الوقائع، وتساعدهم على شرح أفعال دولتهم للدول الأخرى.
يمكن القول أنَّ "العقيدة الأمنية" على العموم تمد الفاعلين الأمنيين في الدولة بإطار نظري متناسق من الأفكار يساعد على تحقيق أهداف الدولة في مجال أمنها القومي، وإذا رجعنا إلى تاريخ "العقيدة الأمنية" فإنها كتصورات كانت موجودة منذ القديم (منذ العهد اليوناني القديم) وكانت مرادفة "للعقيدة العسكرية".
والعقيدة العسكرية غالباً ما يثار التساؤل حول معناها ومضمونها والحدود التي تفصل بينها وبين الإستراتيجية العسكرية والعلاقة التي تربط بينهما، و من هنا يمكن القول أنَّ الإستراتيجية العسكرية مشتقة من الناحية المفاهيمية من العقيدة العسكرية(5)، إذن فلا إستراتيجية عسكرية بدون عقيدة عسكرية.
والعقيدة العسكرية كلمة يراد بها الإشارة إلى الأسس العامة أو المبادئ الرئيسية اللازمة للبناء العسكري للدولة، فهي مجموعة الأوامر والمفاهيم والتعاليم التي تتبناها النخبة السياسية الحاكمة والتي تمثل وجهة نظرها الرسمية في كل ما يتعلق بأمور الصراع المسلح(6)، فالعقيدة العسكرية تعتبر ظل السياسة في الميدان تسترشد بها القوات المسلحة سلماً وحرباً لتحقيق المهمات الوطنية والقومية التي تحددها السياسة العليا أو لنقل الإستراتيجية القومية للدولة. والعقيدة العسكرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة السياسية للدولة وبأيديولوجيتها وفلسفتها الاجتماعية والاقتصادية لتكون بالتالي التعبير العسكري للنهج السياسي، فهي آراء ومفاهيم فلسفية ذات مضمون عسكري تتبناها القيادة السياسية لتكون تجسيداً لعقيدتها السياسية في الميدان.
بعد تعرفنا على مضمون العقيدة الأمنية للدول نحاول في هذا الإطار التعرف على مرتكزات العقيدة الأمنية للجزائر، وذلك حتى يتسنى لنا "ادراك" مضمون سياستها الأمنية في إطار إستراتيجية الدولة الكبرى، ففي ظل التنظير الجيوسياسي نجد أنَّ الجزائر تشكل همزة وصل بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وملتقى طرق برية وبحرية وجوية، وهو ما أكسبها مكانة جيوبولتيكية ضمن مداراتها الإقليمية والعالمية، حيث تبلغ مساحتها2381741 كلم2 وهو ما يعادل 8% من المساحة الكلية للقارة الإفريقية لتحتل بذلك المرتبة الأولى في ترتيب الدول الأفريقية والعربية من حيث المساحة، هذه المكانة الجيوبولتيكية التي تحتلها الجزائر أكسبتها ثقلاً سياسياً خاصة في إطارها الإقليمي، ولعل تزامن هذا التوجه مع ما تشهده دول الجوار الإقليمي من تحولات جعلتها –أي الجزائر­- أكثر محورية من ذي قبل خاصة في شق الأمن الإقليمي والعالمي المتعلق بالحرب على الإرهاب وهذا من منطلق تجربتها وخبرتها الواسعة في هذا المجال.
ثانيا: مرتكزات العقيدة الأمنية الجزائرية من منظور جيوسياسي
تسطر الدول عقيدتها الأمنية لمحاولة التعاطي مع التحديات والقضايا التي تواجهها ومن خلالها تقوم الدول بتعريف التهديدات والمخاطر التي تواجهها، فهي تمثل تصور أمني يحدد المنهجية التي تقارب بها الدولة أمنها كما تحدد أفضل السبل لتحقيقه، وبالرجوع إلى مرتكزات العقيدة الأمنية للجزائر يمكننا القول أنَّ عوامل كل من التاريخ والجغرافيا والأيديولوجيا كان لها تأثيراً واضحاً على هذه العقيدة منذ أيام الاستقلال الأولى.
فقد ارتبط العامل التاريخي في نضال كافة الإمبراطوريات والدول التي احتلتها فما من دولة دخلت الجزائر إلاَّ وقد خرجت منها بمقاومة، فتاريخ الجزائر عبارة عن مراحل متعاقبة من الغزو والاحتلال الأجنبيين، ومن المنظور الجيوسياسي شكلت الأجنحة الثلاث: الشمالية والغربية والجنوبية جبهات انكشاف بالنسبة للجزائر، فمنذ 1505 إلى غاية 1830 تعرضت السواحل الجزائرية إلى مئة (100) حملة عسكرية(7)، وتعد ثورة التحرير الوطني بأفكارها أحد أهم روافد العقيدة الأمنية للجزائر، فهذا التاريخ ترك بصماته في المخيال الجمعي للجزائريين، وهو ما يدفعنا للاعتراف بأن عملية بناء الدولة وبناء عقيدتها الأمنية ورسم التزاماتها داخلياً وخارجياً خضع كثيراً لهذا العامل التاريخي، فرغم التحولات إلا أنَّ هاجس التاريخ يظل حاضراً ولا يزال يطبع العقيدة الأمنية للجزائر، فالإرث التاريخي جعل " ذهنية الجزائريين مسكونة بقيم الفروسية وثقافة المقاومة على الدوام... مما تراكم في وعينا التاريخي وحسنا الشعبي هاجس التهيوء للمقاومة ورد العدوان... حيث لم تكن تجربة الشعب الجزائري مع المحتل لتذهب سدى إذ استخلص منها دروسا عظيمة".(8)        
 في هذا السياق سعت الجزائر إلى توظيف الشرعية الثورية (التاريخية) من أجل تزعم حركات التحرر الإفريقية والعالم ثالثية عموما ما جعل زعامتها للمغرب العربي قضية طبيعية من نتاج التاريخ إلا أنَّ هذه الإرادة اصطدمت بالإرادة المغربية مما أدى إلى تنافس حاد بين الجارين معقدًا بذلك العلاقة بينهما، والتي في الأصل متوترة من قبل بسبب المطالب الترابية للمغرب في الجزائر، ولم يقتصر هذا الصراع على التنافس بل تطور إلى حرب في أكتوبر 1963 (حرب الرمال)، رغم أنَّ هذه الحرب لم تدم طويلا إلاَّ أنها شكَّلت نقطة تحول في بلورة العقيدة الأمنية الجزائرية، حيث أصبح التهديد مباشرًا لأمن الجزائر القومي وبالتالي أحد أهم المحددات الأساسية لسياستها الدفاعية، كما أنَّ النزاع مع المغرب أثر كثيراً على تطور القوات المسلحة الجزائرية، بمعنى أنَّ التهديد لن يكون إلاَّ بري المصدر من منطلق ضعف الجيران الآخرين مقارنة بالمغرب وهذا ما يفسر تمركز وحدات الجيش الوطني الجزائري الأكثر تطوراً على الحدود مع المغرب.
وبعد انفجار نزاع الصحراء الغربية عام 1976 بعد الانسحاب الاسباني واتفاق المغرب وموريتانيا على تقسيم الإقليم- في غياب الجزائر- زادت حدة التوتر الإقليمي، ورأت الجزائر في هذا التطور وهذا السلوك (أي تقسيم الإقليم بين المغرب وموريتانيا) تهديداً لأمنها القومي وتشجيعاً للتوجهات التوسعية المغربية، خاصة أنَّ هذا التطور يدخل في منطقة أمن حيوية بالنسبة إليها، والتي كان قد حددها الرئيس الراحل "هواري بومدين" بقوله" إنَّ المغرب العربي والمنطقة الفاصلة بين القاهرة وداكار تمثل منطقة أمن بالنسبة للجزائر وأنه لا يمكن أن يحصل أي تغيير في هذه المنطقة دون اتفاق مع الجزائر".(9)
فالعقيدة الأمنية للجزائر إذًا كانت قد رفعت شعار دعم حركات التحرر في العالم إلاَّ أنها تبنت كذلك مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير واحترام مبدأ سيادة الدول، ولعل هذا ما يعكس موقفها مما يجري اليوم في العالم العربي من تحولات، وقد أكد هذا خطاب الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة" في كلمة ألقاها بفرنسا في 15 فيفري 2007 حول موضوع "أفريقيا في توازن العالم" جاء فيه أنَّ"الجزائر تطمح إلى تطوير قنوات وأطر التشاور السياسي والتعاون الإقتصادي مع سائر الأطراف الفاعلة على الساحة الدولية، وهي تجنح إلى ذلك مسترشدة بمبادئ الاحترام المتبادل وتساوي الدول في السيادة وعدم التدخل في شؤون الغير وتبادل المنافع"(10)، إلى جانب هذا يلعب العامل الجغرافي للدولة سواءا من حيث موقعها أو مساحتها أو شكلها ومواردها الطبيعية دورا مهماً في بلورة مفهومها للأمن ورسم سياستها الداخلية والخارجية(11).
والجزائر بدورها تحتل موقعاً يعتبر نقطة تقاطع إستراتيجية متعددة الأبعاد بتوسطها لعدة دول مغاربية وكذلك توسطها لكيانين كبيرين الأول في الشمال يمثله الاتحاد الأوروبي والثاني في الجنوب ويتمثل في العمق الإفريقي، هذه النقطة الإستراتيجية بقدر ما خلقت عقيدة أمنية متنوعة بقدر ما جعلت الأمن القومي الجزائري ينكشف على عدة جبهات، فتأثير عامل الجغرافيا على طبيعة العقيدة الأمنية الجزائرية جعلها أكثر تنوعاً، فإلى غاية نهاية الحرب الباردة مثلت قضايا دعم حركات التحرر في العالم والدفاع عن مكانة الجزائر كقوة إقليمية أحد أهم عناصر هذه العقيدة(12)، وهو ما جعل الشواغل الأمنية الجزائرية شمالية بحرية التموقع بسبب مطامع الدول الكبرى لاسيما في ظل الحرب الباردة وغربية برية التموضع جراء المطالب الترابية المغربية.
أما في ظل التحولات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وازدياد عملية الاعتماد المتبادل اتجهت العقيدة الأمنية الجزائرية للارتكاز على عناصر جديدة وعلى رأسها قضايا تتعلق بمحاربة الإرهاب وتجارة المخدرات، وذلك بالانتقال من البعد الخارجي كمحدد للعقيدة إلى البعد الداخلي الذي أثَّر بشكل واضح في صياغتها، وأمام هذا المناخ الذي يسوده التنافس والتوتر سعت الجزائر بحكم موقعها الاستراتيجي إلى البروز كقوة إقليمية لا غنى عنها في مكافحة الإرهاب لما تمتلكه من قوة اقتصادية وعسكرية وبشرية(13)، وبفضل هذه المساعي تبرز بصفتها الشريك الاستراتيجي القوي الذي يمكن الاعتماد عليه في رسم السياسات الأمنية في المنطقة.
كما يعد البعد الأيديولوجي مرتكزاً أساسياً في العقيدة الأمنية للجزائر منذ الأيام الأولى للاستقلال، إذ مثلت الاشتراكية ومبادئها المضادة للاستعمار والاستغلال مصدر ذا قيمة بالنسبة للعقيدة الأمنية وهو ما أكدت عليه المواثيق الوطنية لسنوات 1964، 1976، 1989(14)، وهي مراجع أساسية تؤكد على أنَّ الاشتراكية كنظام إيديولوجي هي المنهج الوحيد الكفيل بتحقيق الاستقلال التام والقضاء على الاستغلال وفي إطار هذه الايدولوجيا تبنت العقيدة الأمنية للجزائر مناصرة حركات التحرر في العالم ومناصرة القضية الفلسطينية والمحافظة على الجزائر كقوة إقليمية، وكذلك الاستعانة بالمؤسسة العسكرية في مجهود التنمية الوطنية، وبالرغم من سعيها نحو البروز كقوة إقليمية إلاَّ أنَّ الجزائر بقيت متمسكة بمبدأ الرفض التام لإقامة قواعد عسكرية على أراضيها أو الدخول في تحالفات عسكرية.
 إلاَّ أنه ومع نهاية الثمانينات وما صاحبها من تحولات عالمية وداخلية تمظهرت في أحداث 05 أكتوبر 1988 دفعت بالجزائر إلى إعادة صياغة بعض المبادئ التي تقوم عليها عقيدتها الأمنية لتواكب الترتيبات الجديدة في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة، وتزامنت فترة هذه التحولات في الجزائر مع بروز ظاهرة العنف بعد توقيف المسار الانتخابي في 1992، وأمام هذه الظاهرة المعقدة تشابكت التحديات وتوسعت لترتبط بظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة ما استدعى إعادة صياغة العقيدة الأمنية الجزائرية وفق مدركات التهديدات الجديدة معتمدة على ميكانيزمات التعاون والتنمية والتشاور لمحاصرة هذه التهديدات الجديدة بعد أنْ تعذر مواجهتها منفردة، كونها ظاهرة عابرة للحدود يصعب محاصرتها والقضاء عليها داخل الدولة.
ما يمكن التوصل إليه هو أنَّ الأمن القومي الجزائري بصفة عامة متعدد الأبعاد ولا ينحصر في البعد العسكري فقط، وهو ما انعكس بدوره على طبيعة العقيدة الأمنية التي اتسمت بالتنوع أمام تنوع الشواغل الأمنية منذ الاستقلال إلى اليوم، هذا الواقع المتعدد في فواعله والمتنوع في طبيعته يدفع بالجزائر نحو اعتماد مفهوم أمن أكثر شمولية واتساع كونه الكفيل بالتعامل مع الأخطار الجديدة بأكثر سرعة من منظور سرعة الانتشار والتحكم، بإعتبار الفعل الأمني يتعلق أساساً بطبيعة التهديد، بحيث تضطر الدولة أحيانا لعمليات الردع من أجل تمرير رسالة مفادها عدم التساهل مع أي تهديد.
ثالثا: البعد العسكري في المقاربة الأمنية للجزائر: عملية تيقنتورين
دعت المقاربة الأمنية الجزائرية في ظل السعي إلى تجسيد أبعاد الأمن إلى ضرورة وضع إستراتيجية مشتركة لبلدان الساحل الإفريقي لمكافحة الإرهاب، ومنعه من التحالف مع ظاهرة الجريمة المنظمة من خلال أطر تعاونية تؤسس لبنية سلم وتنمية بالمنطقة، واستنادًا لنظرية الدول المحورية فإنَّ الجزائر تعتبر دولة محورية في منطقة المغرب العربي وفي ظل النزاعات المحيطة بها في الجوار الإقليمي يجعلها تدفع ثمنا باهضا وربما تنازلات مؤلمة، لذا سعت في تبنيها لمفهوم الأمن التركيز على أبعاده المختلفة من البعد الاقتصادي والثقافي والسياسي إلى العسكري.
وقد لعب البعد العسكري ولا يزال دور الضامن الأول لتحقيق مثل هذا الأمن القومي للجزائر الذي تتبناه الجزائر، فالقوة العسكرية تبقى تشكل جوهر تحقيق ذلك بالرغم من توسع مفهوم الأمن، إذ شكلت الأداة الرئيسية في تأييد السياسة الخارجية الجزائرية وصياغة دورها على المستوى الإقليمي، وهو ما يفسره إلى حد ما سباق التسلح بينها وبين المغرب، فقد أشار تقرير "سيبري" (SIPRI) لمعهد ستوكهولم عام 2011 أنَّ المملكة المغربية أنفقت حوالي ثلاث (03) ملايين دولار واحتلالها المرتبة الثالثة إفريقيا والثامنة عربيا من حيث الإنفاق العسكري(15)، وبعد خروجها من العشرية السوداء وأمام ارتفاع أسعار البترول سعت الجزائر إلى تدارك تخلفها في مجال التسلح من خلال القيام بصفقات تسلح متنوعة، وقد أشار تقرير للمعهد السويدي للإحصاءات العسكرية (SEPPRI) أنَّ الجزائر أكثر دول إفريقيا تسلحا سنة 2011(16)، وأرجع المعهد هذه الإحصاءات إلى الأوضاع المتدهورة على حدودها الجنوبية بعد الأزمة الليبية، إذْ بلغ حجم الإنفاق العسكري ما يعادل 44% أي 25 مليار سنة 2011 في إطار نسبة تسلح افريقية تقدر بــ 6,8%، وفي أخر تقرير نشرته "وورلد تريبيون" الأمريكية يشير إلى أنَّ الجزائر أنفقت 3,10 ملايير دولار عام 2013 بعد أنْ قاربت 10 ملايير دولار عام 2012 وسترفع من الإنفاق الدفاعي  بحسب الدراسة إلى 21% عام 2014 بدل 6%(17)، ما يعني أنَّ نفقات الدفاع والتسليح في الجزائر ستصل إلى 12 مليار دولار تقريبا.
وقد شكل الاعتداء على القاعدة الغازية "بتيقنتورين" علامة فارقة في الخارطة الأمنية في الجزائر سواءاً من حيث طبيعة التهديد أو الهدف أو حتى على مستوى الرد الأمني، وفي قراءة للعملية الإرهابية يمكن القول أنها كانت عملية غير مسبوقة في عمل الجماعات الإرهابية، إذْ ولأول مرة يتم استهداف مجمع نفطي بحجم قاعدة تيقنتورين حيث تبلغ الطاقة الإنتاجية لهذا المركب 25 مليون متر مكعب يومياً موجهة للتصدير، وقد بدى التعامل الجزائري مع أزمة احتجاز الرهائن في تيقنتورين حادًا نتيجة تخوفها من أنْ تتحول إلى المكان الرخوْ الذي يستوعب امتدادات التدخل الغربي في مالي في استنساخ لتجربة باكستان من جراء سماحها للتدخل الغربي في أفغانستان باستخدام أجوائها، لذلك كانت الجزائر حازمة في موقفها في إنهاء الأزمة منفردة دون أية مشاورات دولية لاعتبارات مختلفة، وكانت عملية الحسم العسكري في تيقنتورين رسالة متعددة الأبعاد وجهتها الجزائر لجهات مختلفة يمكن قراءتها على الشكل التالي:
·        بعثت الجزائر عبر الحسم العسكري برسالة للتنظيمات الإرهابية مفادها أنها لنْ تكون فناءاً خلفياً تحكمه توازنات الوضع المالي كما انه على الجماعات الإرهابية أنْ لا تراهن على هكذا عمليات في المستقبل، فالجزائر لا تقبل التفاوض مع الإرهابيين سواءا في عين أمناس أو حتى في أزمات مماثلة.
·        صدَّرت الجزائر أزمة تيقنتورين من منظور أنها نتيجة مباشرة للتدخل الأجنبي بالمنطقة لتبرر موقفها السابق في رفض هذا التدخل.
وفي عملية تحرير الرهائن كانت الجزائر قد أبانت على جاهزية عالية لقواتها المسلحة، خاصة ما تعلق بقوات النخبة من القوات الخاصة وسرعتها في عملية التحرير، وفي قراءة لعملية الحسم العسكري يقول رئيس المركز الدولي للبحث والدراسات حول الإرهاب "ايف بوني" "انه لم يكن خيار أخر سوى ذلك الذي انتهجته الجزائر على الصعيد السياسي والتكتيكي على الأرض"(18)، كما أيَّد هذه الخطوة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية البلجيكي "ديديي رايندرس" في زيارته للجزائر 13 فيفري 2013 بالقول "أنَّ بلاده تشيد بالخيار الاستراتيجي للجزائر في حادثة موقع الغاز بتيقنتورين"(19).
من خلال هذه العملية يمكننا ان نقر بأن الأمن الاقليمي أصبح أكثر تهديدا نتاج ما افرزته حالة الفوضى السياسية والأمنية في المنطقة، وهو الوضع الذي دفع بالجزائر إلى اعتماد مدخل الأمن التعاوني كحل من الحلول لمعالجة التهديدات اللاتماثلية، خاصة اذا ما سلمنا بحالة الضعف الذي ينتقل الى حالة الفشل الدولاتي والذي يطبع بعض دول المنطقة بحيث جعلت منها حكومات عاجزة عن بسط هيبة الدولة ونفوذها على كامل ترابها.
الخاتمة
من خلال ما سبق يمكننا القول بأنه ليس هناك دولة قادرة على تحقيق أمنها القومي بعيدا عن سياق التعاون الإقليمي والدولي، ففي ظل طبيعة التحديات والتهديدات الراهنة العابرة للحدود لم يعد بمقدور أية دولة ــ مهما بلغت من قوة ــ تحقيق أمنها بمفردها، ومن الطبيعي أن تتأثر الدول بما يدور حولها من تحولات وهو حال الجزائر التي يظل أمنها القومي مرتبط ارتباطا وثيقا بدوائرها الجيوسياسية.
                                          المقال منشور بمجلة الرائد المغاربي للدراسات السياسية والبحوث
                                                                       العدد الرابع سبتمبر 2014
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : Dictionnaire Toupie, " Définition de Doctrine". http//: www.toupie.org/dictionnaire/doctrine
(2): عبد القادر محمد فهمي، المدخل إلى دراسة الإستراتيجية، عمان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2006، ص40

(3) : Dictionnaire Toupie, Op.cit.
(4) : Fracis Sempa, "US national Security doctrines historically viewed". American Diplomacy, 2003, www.americandiplomacy.org, p01(02/12/2012)
(5) : عبد القادر محمد فهمي، مرجع سابق، ص 40
(6) : نفس المرجع، ص41
(7) : عبد النور بن عنتر، البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوروبا والحلف الأطلسي، الجزائر: المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، 2005، ص41
(8) : من خطاب رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، يوم السبت 02 جويلية 2005 خلال الجلسة الافتتاحية لملتقى حول "نشأة وتطور جيش التحرير الوطني". وزارة الخارجية، خطابات. متحصل عليه:   www.mae.dz (24/12/2012)
(9) : عبد القادر الهرماسي، المجتمع والدولة في المغرب العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987، ص135
(10) : خطاب رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، يوم 15 فيفري 2007. وزارة الخارجية، خطابات، متحصل عليه: www.mae.dz (24/12/2012)
(11) : إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، الكويت: دار السلاسل، 1985، ص175
(12) : صالح زياني، " تحولات العقيدة الأمنية الجزائرية في ظل تنامي تهديدات العولمةمجلة الفكر، العدد الخامس،( كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر)، ص291
(13) : مهدي تاج، " المستقبل الجيو-سياسي للمغرب العربي والساحل الافريقيتقارير، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 20 أكتوبر 2011، ص03
(14) : الطاهر بن خرف الله، النخبة الحاكمة في الجزائر 1962-1982: بين التصور الأيديولوجي والممارسة السياسية، ج1، الجزائر: دار هومه للنشر والتوزيع، 2007، ص105
(15) : معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، ستوكهولم: معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، 2011، ص345
(16) : نفس المرجع، ص346
(17) : محمد بن أحمد، "الإنفاق في الجزائر سيواصل الارتفاع إلى 2017"، الخبر اليومي، العدد 7087، 28 ماي 2013، ص03 
(18) : أمين عباس، آسيا مني ، "تضامن مطلق مع الجزائر في التصدي للإرهاب". جريدة الشعب، العدد 16010، 21 جانفي 2013، ص02
(19) : حميد يس، "المعتدون على مصنع عين أمناس جاءو من الجوار وليس من أوروبا". الخبر اليومي، 13 فيفري 2013، ص03