بحكم الدور الكبير الذي يؤديه عامل المكان في حياة الدولة وتحديد قوتها وفي
مسار العلاقات الدولية بوجه عام جاء ميلاد الجغرافيا السياسية في أواخر القرن
التاسع عشر ولكن كان لمولدها إرهاصات منذ القرون القديمة والوسطى، فنجد المؤرخ
اليوناني القديم "هيرودوت" يذكر أنَّ "سياسة الدولة تعتمد على
جغرافيتها".1واعتبر أنَّ حياة المصريين
رهينة مياه النيل، فقال مقولته الشهيرة "مصر هبة النيل".
ولم يتواني مونتسكيو (Montesquie) في توضيح العلاقة بين الظروف
المناخية والقدرة على التنظيم أو القدرة على العدوان، أو بينها وبين التشريعات
التي تخضع لها الجماعات البشرية، وشرح العالم الكبير عبد الرحمان ابن خلدون في كتابه الشهير "بالمقدمة" التفاعل بين الجغرافيا
والسياسة.
أوضح "فريدريك راتزل" (Fredrish Ratzel) (1844-1904) العالم الألماني أب الجغرافيا
السياسية والمؤسس الحقيقي لها في هذه المرحلة التاريخية المبكرة في كتابه
"الجغرافيا السياسية" (PolitisheGeographie) "أنَّ العوامل الجغرافية
تتحكم في نمو الدولة وتكوينها، وأنَّ حدود الدول قابلة للنمو والزحزحة حتى تبلغ
حدودها الطبيعية وتتعداها إنْ لم تجد مقاومة من الجيران".2وبذلك كان مفهوم "المجال
الحيوي" (Lebensraum) من وضعْ راتزل أيضا، وهو ما
ذهب إليه العديد من المفكرين من أمثال "إسحاق بمان" (Isaac Bowman) في كتابه "العالم
الجديد" (The New World)، و"ديرونت وتيسلي"
(Derwent Whittessley) في كتابه "الأرض
والدولة" (The Earth and State).3
وبالرغم من اختلاف تعريفات الجغرافيا السياسية كعلم بين المدارس الفكرية
إلا أنَّ الجغرافيين على الرغم من ذلك اتفقوا على إطار عام لمفهوم الجغرافيا
السياسية، يتلخص في أنَّ الجغرافيا السياسية على مقدار ما تسهم به العوامل
الجغرافية ومعطياتها الطبيعية والبشرية في قيمة الدولة، وفي اتجاهات وأسلوب السلوك
السياسي لها، حيث تبين أنَّ عوامل الجغرافيا تلعب دورًا لا يمكن تجاهله في تشكيل
الكيان السياسي للدولة.
رغم هذه الأهمية إلا أنَّ البعض ذهب إلى التقليل من قيمة الجغرافيا
السياسية كعلم من أمثال "كارل ساور" في عبارته المشهورة "أنّ
الجغرافيا السياسية هي الطفل الغير شرعي لمجموعة العلوم الجغرافية".4(The Way Word Child of the
Geographicol Siences).
ومهما تحمله هذه العبارة من تقليل لمكانة هذا الفرع من فروع الجغرافيا،
إلاَّ أنَّ الجغرافيا السياسية قدمت للجغرافيا بلا شك الكثير من الأفكار
والمفكرين.
ويعد أشهر تعريف للجغرافيا السياسية ذلك الذي قدمه "هارسهورن" (R. Hartshorne)، حيث عرفها بأنها "العلم
الذي يهتم بدراسة التشابه والإختلاف بين الشخصية السياسية للدولة والإقليم السياسي
وبين نظيراتها من الدول والأقاليم السياسية الأخرى في العالم، ولكي نفسر
الإختلافات الإقليمية في صورة الملامح السياسية، لا بد من دراسة علاقاتها
المترابطة مع جميع الإختلافات الإقليمية الأخرى المتصلة بها، سواء أكانت ذات أصل
طبيعي أم حيوي أم ثقافي".5
ويعرف "كريسي" (Cressey) الجغرافيا السياسية بأنها
"تطبيق المبادئ الجغرافية على المشكلات السياسية الداخلية للدولة، فهي بذلك
تبحث في الحقائق المتعلقة بالموقع والحدود والمساحة والتماسك، أو التجانس الداخلي
من حيث علاقاتها برخاء الأمم وتقدمها".6